منذ مدة وأنا أرغب في التخلص من الأريكة العتيقة التي يصر أبي على الاحتفاظ بها. ولطالما كان هذا سببًا دائمًا للخلاف بيني وبينه. ولكنه يرفض دومًا الفكرة بذريعة أنها آخر قطعة أثاث باقية من بيت جدي القديم ولا يمكنه التفريط في تلك الذكرى الغالية. وعندما أحاول إقناعه بنقلها إلى غرفتي أو غرفته مادام يصر على وجودها بدلًا من وضعها في الصالة أمام الضيوف، كان يرفض كذلك وبشدة ولا أفهم سببًا لهذا. ولكني قررت اليوم أن أكتشف ما الذي يوجد وراء هذا الإصرار على عدم نقل الأريكة من مكانها. حركتها قليلًا، فسمعت صوتًا يصدُر من الجزء السفلي منها. كان يبدو وكأنه صوت شيء ارتطم بباب ذلك الجزء عند تحريكها، فقد كان الجزء السفلي مفتوحًا وله باب لتخزين الأشياء. كان الباب مغلقًا بقفل فلم أجد بدًا من كسره بمطرقة. ولكن لم يكن هناك شيء سوى صندوق خشبي مزخرف قديم. كان بداخله بعض الصور القديمة لأمي. استأنفت البحث فوجدت دفتر مذكرات قديم فتحته ولم أجد صعوبة في تمييز خط أبي:
اليوم ينقضي آخر أيام العدة ل سلوى. رأيتها لأول مرة في مثل هذا اليوم مع زوجها المتوفي. وكان ذلك في إحدى الكافيتريات حيث كان ينتظرهما أحد الأقارب الذي صاح عند رؤيتهما كان صوته عاليًا لدرجة جعلتني ألتفت للخلف لأرى مثير هذا الإزعاج ولكني تجمدت مكاني حين رأيتها كان جمالها ملائكيًا. وكانت رقتها شيء فوق التقييم البشري اقتربت من منضدتهم، سمعتهم يتحدثون عن استئجار شقة، تدخلت مباشرةً في الحديث وقد شعرت بأن التفاحة سقطت في حجري، فعرفتهم بنفسي بصفتي راغبًا في تأجير شقتي الفارغة ولم يمض اليوم حتى أسكنتها أمام ناظري. هكذا، كانت لدي كل الفرص الممكنة كي أقطر عيناي برؤيتها وإن اختفت عن ناظري كنت أنظر إلى صورها العديدة التي التقطتها لها خلسةً كي لا أُحرم من مطالعة عيونها البديعة حين لا يمكنني ملاحظتها بعيني. كنت أنثر صورها على سور الشرفة من الداخل لأصبر نفسي بينما أجلس منتظرًا أن تكشف ستائر شرفتها عن الشمس التي تحجبها. كانت سلوى تشبه أمي كثيرًا. ربما هذا ما جذبني إليها. فكرت في ذلك كثيرًا حين كانت تقرصني عقارب الضمير لحبي اللامتناهي لامرأة متزوجة مسمية إياه بهوس أصابني تحت ضغط الظروف، ظروف وحدتي من بعد وفاة أمي التي كانت عالمي كله. فليكن، فالحب ما هو إلا هوس بالأساس. ولكن زوجها حين رأى تلك الصور لم يعتبر ذلك هوسًا ولا حبًا بل جريمة استحق عليها إراقة دمي. كانت هناك سيدة تنظف لي المنزل وعندما تأتي في وجودي كانت تترك الباب مفتوحًا وهكذا دخل الضيف غير المرغوب به دون دقة جرس ولا باب منذرة بعدما سمحت له المُنظفة بالدخول قبل أن تذهب لشراء طعام الإفطار، ليجدني منهمكًا في إزالة صور زوجته تمهيدًا لتخبئتها في صندرة أريكة أمي قبل أن تعود الخادمة. تسمر الرجل في مكانه ونقل بصره بين الصور وبيني غير مصدق. وهكذا، ثبتت عيناه أخيرًا وكذلك يداه حول عنقي. أمسكت بيديه محاولًا إبعاده ثم ركلته في بطنه. سقط على جانبه. قفزت خلفه سريعًا وأنا أطوق عنقه بحبل الصور. كنت أقوى ليس بجسدي ولكن بحبي. لم تكن سلوى مجرد امرأة، بل كانت بالنسبة إلي عايدة "نجيب محفوظ" المخلوقة الأسطورية التي أحبها كمال حد التقديس ولكني لست سلبيًا مثله. ولن أضيع حياتي في محراب الحب الأفلاطوني. إنها دقيقة واحدة ويُزال الحاجز الوحيد بيننا ويُدفن إلى الأبد تحت أريكة أمي، حيث اعتدت دائمًا أن أخبئ الأشياء التي لا أود لها أن تظهر. وقد كان. اليوم، ستنتهي عدتها ويمكنني أن أتزوج بها. ولكني لا أعرف هل نسكن في شقتي المستأجرة حيث تتناثر ذكريات زوجها السابق أم في هذه الشقة حيث يوجد هو نفسه. لا أريدها أن تبقى في مكان يذكرها كل شيء فيه به، فأنا لا أريد أن يشاركني في قلبها أحد. ولكن لو تزوجتها هنا، فيمكن أن تكتشف كل شيء. ولكنها تحترم الذكرى كثيرًا ، وخاصةً ذكرى المتوفي. لذا، فلا شك أنها ستلتزم بكل ما سأنبهها إليه بخصوص أريكة أمي مهما كان غير منطقي .
هنا تنتهي المذكرات مذيلة بدموعي. صوت باب الشقة يُفتح. إنه أبي. أشعر بالقشعريرة. لأول مرة أشعر بالرعب حينما أسمع صوت حركة مفتاحه في قفل الباب لا بالاطمئنان. فهذا الرجل الذي يقف هناك ليس أبي، بل مريض مجرم سمح لنفسه بحب امرأة لا تحل له وقتل زوجها دون وخز ضمير وسمح بأن تروح وتجيء مع ابنتهما فوق جثته. ماذا أفعل؟ هل أواجهه؟ أم أصمت؟ إن الباب ينفتح حقًا وها هو يدخل. إنه ينقل نظراته بين القفل المكسور والصندوق وبيني، هل سيقتلني أنا أيضًا؟ أعجز عن فهم نظراته أو توقع خطواته. هل أركض؟ لا، فلأصرخ، لأصرخ وحسب .
