الأحد، 22 يوليو 2012

رابطيا.

 رابطيا
 
أوقفت سيارتي أمام  "الجاليرى" وهبطت منها . وقفت أمامه لبرهة أتطلع ﺇليه وأنا أمرر أصابعي على المسبحة التي تحاكى حباتها السوداء المزدانة بالكتابة الذهبية شكل الكعبة المشرفة  واﻟﺘﻲ أهدتها لي يوما حين حدثتها أنى أتوق لزيارة بيت الله ، فقضت الليل كله تصنعها وحين التقيت بها في صباح اليوم التالي ، وجدتها تمد يدها بها إلى ﻓﻲ بسمة تقول " دى تقدر تسميها بشرى خير ".
" يا الله" لقد أنشأته كما تخيلته تماما وكأنه قد خرج من عقلها وارتسم واقعا حين وصفته لي منذ سنوات.
دخلت ﺇليه ووجدت ذات الأقسام التي وضعتها هي منذ سنوات معي على ورق دفتر الرسم الطويل الذي كانت تستخدمه أثناء دراستها بكلية الفنون. شرعت أتطلع  ﺇلى "البورتريهات" وأتذكرها في كل لون من ألوانها . كانت أعمالها دوما محاكية لحالتها النفسية.
وكذلك كانت تصرفاتها وﺇنجازاتها. عندما تكتئب ، لا تنجز أي شيء و ﺇن فعلت ، فلا تشعر بلذة النجاح أبدا. عندما تتوتر ، تصير عصبية ، توشك أن تدمر كل شيء أمامها ولا تخشى من خسران أي شيء فى تلك اللحظة فكل العالم لديها زائل عندما تكون في تلك الحالة. كانت نفسيتها تتحكم في كل شيء ويبدو أنها لازالت تتحكم ، فكل ما هو مرسوم حوﻟﻲ قد تلحف باللون الرمادي واﻟﻛﺤﻟﻲ والأسود ﺇلا قليلا من البهجة هنا أو بعضا من اللون المائي الصافي هناك
أقبلت ﺇلى من جانب ما من هذا المكان. كانت هي أو هي.
لقد نحفت عن قبل ،
مكياجها كان هادئا كما كان ، ولازالت ترتدي الأحذية ذات الكعوب المنخفضة لتتحرك بحرية كما كانت تحب دوما.
يبدو أنها تفاجأت برؤيتي وﺇن حاولت ﺇخفاء ذلك ولكنها كالعادة لا تجيد التمثيل. منذ أن لمست يداي كفها المرتجف ، أيقنت أن قدومي كان مفاجئا وموترا  لها. دوما كانت يداها ترتجف عندما تتوتر ، عندما تخطىء وحين تضطر لمواجهة عيون الآخرين.
جلست معها على منضدة مجاورة وبدأنا حديثا تتخلله السنوات الماضية التي نستطيع التحدث عنها دون ارتجاف.
سألتها عن ما فعلته في السنوات الماضية فأجاﺑﺘﻨﻲ :
"اشتغلت فى محلات وجاليريهات كتير واشتركت برسوماتي في معارض صغيرة لحد ما الحمد لله أهو قدرت افتح الجاليرى اللى كنت بحلم بيه وانت ايه اخبارك؟ "
كانت عيناي مسلطة على كفيها تنقب عن وجود خاتما ذهبيا ما من تلك الخواتم التي تصيب بالانهيار العصبي والسكتة القلبية ولكنى لم أجد فاستطعت أن أجيبها  في اطمئنان :
" جميل أوى وأنا كمان الحمد لله فتحت المكتب الهندسي اللى كنت بحلم بيه بعد ما اشتغلت شوية بره . أنا لسه راجع على فكرة "
عندما انتهت كلمتي الأخيرة ، وجدت أن عملية التنقيب قد انتقلت ﺇلى منطقة أصابعي أنا وقد أسفرت عن وجود معدن الفضة فى يدي اليسرى الذي لم أفلح في ﺇخفائه عن العيون الكاشفة.
" مبروك" قالتها لي مبتسمة تلك الابتسامة التي دوما ما كانت تقبض قلبي قديما.
"- الله يبارك فيكى ، انتى شكلك لسه مرتبطيش "
" -لا ، لسه شوية على الموضوع ده "
برق السؤال في ذهني فجأة وألح ﻋﻟﻲ قريني الشيطاني أن ألبى حاجتي من الفضول وأعرف جوابه.
حاولت نفسي اللوامة كثيرا إثنائي وتحذيري من العواقب ولكن نفسي الأمارة كممت فمها بقوة حتى أغشى عليها ، فارتكبت الخطيئة مسرعا قبل أن تفيق.
" -انتى اتعالجتى ؟ "
نظرت ﺇﻟﻲ بعيون مرعبة متفاجأة متوترة .
تراجعت في كرﺴﻲ وقد أفاقت نفسي اللوامة وأخذت تصرخ:
" ألم أحذرك ؟ "
ارتجفت يداها ، شربت من الماء الموضوع أمامها ، أخرجت نفسا صفع رئتيها بقوة.
وقبل أن أتدارك نفسي وأبدأ مراسم التوبة
نطقت بصوت خفيض " بتعالج"
انقبض قلبي بقوة حين سمعت كلمتها وحين رأيت عينيها حزينة تحاول بعض الدموع أن تسبح فيها ولكنها سحبتها ﺇلى اليابسة كعادتها .
حاولت الاعتذار ولكنها أجابتني بابتسامتها المترجمة ﺇلى " لم يحدث ﺸﻲء "
استأذنتها في معرفة رقم هاتفها فقالت لي ﺇنه كما هو ولكن يمكنني معرفته ﺇذا كنت محوته.
أخذت أخط  الرقم على هاتفي وأنا أشعر بخجل المدين ، فقد ضاع رقمها منى وسط لجاج السنوات الماضية.
ودعتها وذهبت ﺇلى بيتي.
طوال الطريق ، لم تفارقني  صورتها بعد أن طعنتها كلماﺘﻲ.
   
لماذا قلت ذلك ؟
لماذا ؟
ما الذي أردته؟
هل أردت أن استعد أملا قديما ؟
أم أردت أن استوثق أنها لازالت مريضة ، فلن تكون لغيري كما لم تكن لي ؟
هل أنا أناني لهذا الحد؟
أم أنا حقا لا أستطيع نسيانها ؟
وهل نسيتها يوما.
نظر لي ابني ياسين من بروازه وأشار ﺇلى صورة أمه المنشغلة بشيء ما كما تبدو فى البرواز الفوتوغرافي الذي يجاوره.
فأجبته : لا يا يس . أنا لا أكرهكم . هذا لا يتعلق بكم.
ﺇنه حلم قديم لي . سبق وجودك ووجود أمك في حياتي.
لقد صار لي حبا رابطيا كما حب الآباء واﻹخوة ، لا يمكنك أن تنتزعه من قلبك مهما يكن . لا يمكن أن أبدى عليه حب أمك  ولا أن أسلطه عليه . فهما نوعان مختلفان من الحب ولا يجوز المقارنة بينهما.
قطب جبينه فشرعت استميله قائلا " ألا تحب أباك ، ألا تريد له أن يفرح ، ﺇن هذا الحب يسعده كثيرا"
منذ زمن قالت لي تلك الجملة التي حدثتك بها ولكن بالوضع اﻟﻌﻛﺴﻲ
" أنا أحبك ، وأريد لك أن تسترح ، وهذا الانفصال سيريحك كثيرا "
لا ، لم يرحني أبدا ولو يوما واحدا.
قلتي أنك مريضة نفسيا. ومرضك سوف يتعسني وسوف يعوقني عن تحقيق أحلامي.
حاولت أن أعرف منك  كنه هذا المرض فلم تجبى ؟
بحثت عند الأطباء النفسيين ممن أعرفهم وطالعت الكتب واﻹنترنت وكل شيء لأتمكن من استشفاف حقيقته من عصبيتك ، من توترك ، من حيرتك ، من ارتجافك ، فلم أعلم.
تركتك كما طلبت لتبدأى رحلة العلاج وشرعت أبدأ رحلتي.
حاولت نسيان الماضي وبدء صفحة جديدة مع المستقبل فتزوجت وأنجبت ولكنى لم أشف من مرضك أبدا.
عدت ،فشرعت من فوري أبحث عنك، فوجدتك لازلت في منتصف الرحلة.
ولكنى لم أعد أطيق الصبر ولا أريد تعاسة على المدى البعيد ، كل ما أفكر فيه هو السعادة القريبة التي سأجدها معك.
دماغي المتهور كما وصفته يوما  أعطى الأمر الفمتو ثانوي ﺇلى ذراعي ، فأدار مقود السيارة ﺇليها ثم انطلق مسرعا
" مهما حدثتني عن مرضك ، فلن أستمع ، مهما حدثتني من أنك لن تقدمي لي شيء فلن أصدق ، مهما دق الشعور بالذنب الذي تتقنينه فلن ألتفت.

كل ما أريده هو أنت ولأجل ذلك سأحارب قناعاتك التي ستصدينني بها

22/7/2012
رضوى


هناك 5 تعليقات:

  1. جميلة جدا القصة يا رضوى،و جميل تعبير حبا رابطيا..ربما كنت أبحث عن هذا التعبير منذ زمن، أشكرك.
    ..
    كل سنة و انتي طيبة، رمضان كرم

    ردحذف
  2. تحفة يا رضوى ..تحفة بجد

    تاثرت بيها اوى

    ردحذف
  3. كانت هى أو هى.
    عجبتني الجملة أوي .. ومتفق مع أحمد في تعبير (حبا رابطيا).. وافتكر إني ما قرأتوش في مكان قبل كدة

    القصة روعة وعجبتني جدا

    تسلم إيدك

    ردحذف
  4. " مهما حدثتنى عن مرضك ، فلن أستمع ، مهما حدثتنى من أنك لن تقدمى لى شىء فلن أصدق ، مهما دق الشعور بالذنب الذى تتقنينه فلن ألتفت.
    كل ما أريده هو أنت ولأجل ذلك سأحارب قناعاتك التى ستصديننى بها.

    ردحذف
  5. جميلة جدااااا
    مبروك
    سعيدة انى اتعرفت على مدونتك

    ردحذف